بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله يا أعزائي...
لم أجد في تاريخ الأدب العربي ولا فيما اطلعت عليه من تاريخ آداب الأمم الأخرى شاعراً اصطلحت عليه الأيام وظلمته الأحداث كهذا الشاعر الذي اجتمعت عليه الآراء الأدبية المنصفة على أنه من أكبر شعراء العرب ، بل إنه من أعظم شعراء الدنيا .
كان في حياته مضرب المثل في الفقر وسوء الطالع واضطراب الأعصاب وثورة النفس حتى لم يكن يستطيع تحمل النسمة الفاترة أو الكلمة العابرة فهو متوتر النفس دائماً يثور كالأطفال وتغلي عواطفه غلياناً شديداً ، يؤرق جفنه ويعذب ضميره ، حتى يقول من شعره ما يخفف من ألمه فتثور الدنيا له ويأتمر به الناس ممن أصابهم هذا الشعر الجارح فيصيح ثانية غرضا للأذى ورميّة للسهام المسمومة من أعداء لا يرحمون ومنافسين لا يهدأون .
تلك كانت حياة هذا الشاعر العجيب الذي ملأ الدنيا شعراً وشعورا ، وخلّف لنا من التراث الفني مالا يقوم بمثله عدد كبير من الشعراء .
ظُلِم ابن الرومي في حياته .
لقد أتاه الظلم من جميع النواحي فلم يستطع الدفاع ، وغزاه الإجحاف من كلّ فجّ حتّى أضاع صوابه وهارت أعصابه وانّى لقريحته أن تقوم بكلّ هذا العبء وهل مقول واحد مقاومة هذا السيل من الناس وكلهم يحبّ أن يؤذيه إمّا تشفياً وإما تسلياً ، والرجل الشاعر الفنان ، المرهف الحسّ حائر بين هذه المصائب المتدافقة يحاول أنّ يرد الأذى عنه فما يقدر ، حتى أصابه أحد هذه السهام بخشكنانة مسمومة فارق فيها الحياة فأراح واستراح ولعلك تعجب أشدّ العجب حين ترى هذا التناقض التاريخي في النظر لهذا الشاعر الكبير ، بل يأخذك الاستغراب إذ تعلم أن القدماء شغلوا بهذا الشاعر حتى ملأ عليهم الوقت والتفكير ، ولكن هؤلاء القدماء أنفسهم أهملوا ابن الرومي إهمالاً لا مبرر له فلم يكتبوا تاريخه ولم يدونوا أحداث حياته ولم يتعرضوا لسيرته إلا في روايات قليلة لا غَناء فيها ولا فائدة ، ومع هذا فإن الشاعر في رأي الكثيرين من مؤرخي أدب ذلك العصر وما تلاه من العصور لم يكن نكرة ولا مجهولا ، بل كان ذا شهرة مستفيضة ، يروي الناس شعره ويستشهد به النقاد والأدباء ، ولقد ذكر صاحب العمدة بأنه – أيّ الشاعر – ( كان بين من غطوا على الشعراء بشهرتهم ) .
وظُلِم بعد موته .
ولقد أهمل المؤرخون تاريخ هذا الشاعر عن قصدٍ ونيّة ، وكانوا يضعون الكتاب يذكرون فيه كلّ الشعراء المعاصرين لابن الرومي حتى إذا مرّ ذكر الشاعر وجاء دوره ذكروا اسمه فقط أو نبذة صغيرة عنه ثمّ تجاوزوه إلى غيره بسرعة لا ريث فيها فيما مما يترك للقارئ هذه الأيام حيرة لا مخرج منها وشكّ لا كاشف له .
وهذا أبو الفرج الأصفهاني الذي وضع أكبر موسوعة أدبية في عصره يذكر البحتري ويترك ابن الرومي وهما معاصران ، وهذا ياقوت الحموي في معجم الأدباء لا يذكر ابن الرومي ولا يترجم للكثيرين من معاصري الشاعر وأساتذته وتلاميذه وممدوحيه ومهجويه .
كل ما ذكره أولئك المؤرخون الأعلام عن ابن الرومي أنّه : ولد يوم الأربعاء بعد طلع الفجر لليليتين خلتا من رجب سنة 221 هـ ، ببغداد في الموضع المعروف بالفقيقة ودرب الختلية في دارٍ بإزاء قصر عيسى بن جعفر بن المنصور ، وهذا ما نقلناه عن ابن خلكان ، وما كتبه غير هذا المؤرخ ليس أكثر تفصيلاً ولا أوفر مادةً وعلما .
العقاد أول من كشف عنه الغطاء .
ولعلّ أكثر الكتاب في عصرنا الحديث اهتماماً بموضوع ابن الرومي المرحوم الأستاذ عباس محمود العقاد وقد شاركه في إكبار الشاعر : المازني وعبدالرحمن شكري ، إلا أن العقاد كان أكثرهم اهتماما وأبعدهم أثراً في دارسة هذا الشاعر وأحياء ذكره وتعريفه إلى القراء من أبناء الجيل الجديد ولقد ركّز العقاد في دراسته لشعر ابن الرومي على نقطتين أولاهما أن الرجل لم يُنصف في تاريخ الأدب العربي ولم يعطَ محلّه الذي استحقه ، وثانيهما أنّ تفرّد ابن الرومي في طريقة شعريّة خاصة وامتيازه عن غيره من الشعراء العرب إنما يرجع إلى أصله الرومي وهذا الأصل الآرى الذي يترك أثراً في سلالاته غير الأثر الذي تعرفه عند السلالات العربية السابقة .
أمّا النقطة الأولى فالعقاد يتردد في تقرير رأيه فيها ثمّ يخرج من هذا التردد بفكرة جديدة غير واضحة ولا مستقرة فهو يقول ما معناه : إن ابن الرومي لم يكن خاملاً في زمانه أو بعد زمانه ، ويحتجّ لرأيه هذا بأن الديوان قد حفظ ولم يضع منه شيء وهو يعتبر بقاء هذا الديوان وعدم ضياعه دليلاً على شهرته واهتمام الناس به وعرفانهم لقدره معرفةً تامة .
ولكن ضياع الدواوين الشعرية العربية لم يكن إلا نتيجة للنكبات التي أصابت المكتبة العربية خلال الغزوات التتارية من هولاكو وجنكيز خان وتيمورلنك وقد يكون حظّ ديوان ابن الرومي أعظم من حظّ صاحبه فسلم من هذه النكبات كما سلِم ديوان المتنبي والبحتري ، وليس هذا الضياع دليلاً على إهمال شاعرٍ كبشار أو دعبل وإن ضاع ديواناهما . وكذلك فإن ذكر هذا الشاعر في كثير من الكتب وحفظ مختاراته لا يمكن أن يعد دليلاً على اهتمام الناس به لأن حفظ المختارات عمل يتناول حتى الشعراء المهملين حقاً أو الشعراء الذين تنحط مرتبة ابن الرومي وأمثاله من الشعراء الأفذاذ.
ابن الرومي وحالته السيكولوجية ، يحكي لنا العقاد !.
من كتاب ( ابن الرومي ، حياته من شعره ) للأستاذ العقاد يحدثنا عن مزاج ابن الرومي ، وأثره في إسرافه في كلّ شهوات النفسِ والجسد ، وأثر هذا الإسراف ذاته في مزاجه وأثرهما معاً في ( وسوسته ) وأثر هذه الوسوسة في استطراداته الشعرية ، وهي نموذج لمواضع كثيرة في الكتاب ، تتناول كلّ نواحي نفسه وانفعالاته الظاهرة والخفية : ولعل الصواب أن نقول إنّ ابن الرومي وقع من مزاجه وإسرافه في حلقة موبقة لا يدري أين طرفاها ، فمزاجه أغراه بالإسراف والإسراف جنى على مزاجه فإن هذا الإسراف الموكل بالاستقصاء في كلّ مطلب ورغبة خليق ولا غرو أن يسقم جسمه وينهك أعصابه ويتحيف صوابه بيد أن لا يسرف هذا الإسراف إلا وفي جسمه سقم وفي أعصابه خلل وفي صوابه شطط لا يكبح جماحه فالعلة هي سبب الإسراف والإسراف هو سبب العلّة!. وهو من هذه الحلقة الموبقة في بلاءٍ واصب ومحنة لا قبل بها للضليع الركين فضلاً عن المهزول الضئيل وعلاقة ذلك باختلال الأعصاب وشذوذ الأطوار بدءً وعودًا ، ثم عودًا وبدءً أوثق علاقة من جانب الجسد وجانب التفكير .
ولا تعزونا الأدلة على اختلال أعصاب ابن الرومي وشذوذ أطواره من شعره وغير شعره . فإن أيسر ما تقرؤه له أو عنه تلقى في روعك الظنة القوية في سلامة أعصابه واعتدال صوابه ثمّ يشتد بك الظن كلما أوغلت في قراءته والقراءة عنه ، حتى ينقلب إلى يقين لا تردد فيه . وكلّ ما نعلمه عن نحافته وتقزز حسّه وشيخوخته المبكرة وتغير منظره واسترساله في الوجوم واختلاج مشيته وهجائه وإسرافه في أهوائه ولذاته ، ثمّ كلّ ما نطالعه في ثنايا سطوره من البدوات والهواجس .. قرائن لا نخطئ فيها الدلالة الجازمة على اختلال الأعصاب وشذوذ الأطوار بل لا نخطئ فيها الدلالة على نوع الاختلال ونوع الشذوذ .
ونقول ( نوع الاختلال ) لأن هذه الكلمة عنوان واسع يشمل الحالات النفسية والجسدية مثل ما تشمله كلمة ( الصحة ) أو أكثر فهذا صحيح وهذا صحيح ، ولكن البون بينهما جدّ بعيد وهذا مختل الأعصاب وذاك مختلها ولكن الخلاف بينهما في الأخلاق والمشارب كأبعد ما بين فردين مختلفين من بني الإنسان فتختل أعصاب المرء فإذا هو جسور عنيد متعسّف الأخطار ، هجّام على المصاعب لا يبالي العظائم ، ولا يحذر العواقب ، وتختل أعصاب المرء فإذا هو مطيع حاضر الخوف متوجّس من الصغائر ، يبالغ في تجسيمها ، أو يخلقها من حيث لم تخلق ، ولم يكن لها وجود في غير وهمه ، وبين الحالتين – لا بل في كلّ حالة من الحالتين – نقائض وفروق لا تقع تحن حصر ولا تطرد على قياس .
وبديهي أنَّ ابن الرومي لم يكن من الفريق الأول في ( نوع اختلاله ) ولكن كان من الفريق الثاني الذي يستحضر الخوف ويكثر التوجس ويختلق الأوهام .
ومن أصحاب هذا المزاج من يخاف الفضاء أو يخاف الحيوانات المنزلية لا قوّة لها ولا ضراوة ، كالقطط والكلابِ والجرذان ، فابن الرومي واحد من هؤلاء نحسب أنّه كان مستعداً لهذه الهواجس طوال حياته في صحته ومرضه وفي شبابه ومشيبه ، ونحسب أن استقصائه للمعاني الشعرية والإلحاح في تفريغها وتقليب جوانبها إن هو إلا علامة خفيفة من علامات الوسواس الذي لا يرح صاحبه ولا يزال يشككه ويتقاضاه التثبت والاستدراك ، فيمعن ثمّ يمعن حتى لا يجد سبيلاً إلى الإمعان .
ولكنه مع استعداده الهواجس في شبابه ومشيبه قدّ تمادى به الوسواس في أعوامه الأخيرة حتى أصبح آفة متأصلة وغلبت على أقواله وأفعاله جميعاً فليس له عنها محيص فأفرط في الطيرةِ واشتد خوفه من الماء لا يركبه ولو أدقع ودعاه إلى ركوبة من يمنونه الأرفاد وحسن الضيافة ، وصوّر لنا ما يعتريه من خوف تصوير لا يدلّ إلا على حاله مرضية ولو كان التشبه فيه من مجاز الشعر وتمويه الخيال . وهذا بعض ما قاله في مخاوفه وأهوال ركوبه :
ولو ثاب عقلي لم أدع ذكره بعضه * * ولكنّه من هوله غير ثائبِ .
أظلّ إذا هزّته ريح ولألأت * * له الشمس أمواجًا طوال الغواربِ .
كأني أرى فيهنّ فرسان بهمةٍ * * يليحون نحوي بالسيوف القواضبِ .
تعليل جديد لإهمال ذكره .
والذي اعتقده أن من أهم أسباب نسيان هذا الشاعر ما ورد في ديوانه من إقذاع وأدب مكشوف تجنبه الناس من الأدباء نتيجة الضغط ديني أو أخلاقي ، ونحن هنا في عصرنا هذا نجد من الصعب العسير أن يتعرض الأدباء لشرح الألفاظ النابية الصريحة التي لا تستطيع الكثرة الكاثرة من الناس احتمال قراءتها أو روايتها مكتوبة أو مطبوعة ولسنا بسبيل مناقشة هذا الرأي ولكن الواقع أن رأي غالبية الناس ما زال مستقراً على أن مثل هذه الألفاظ الصريحة لا يجوز نشرها على الناس عامة وإن جاز أن يطلع عليها أولو الاختصاص في سبيل هدفٍ أدبي آخر .
إن هذه الألفاظ ( المكشوفة ) تعتبر في حدّ ذاتها خروجاً عن المألوف وتحديا لما هو معروف بين الناس من قواعد واصطلاحات خلقية أو اجتماعية ، وقد رأينا ما وقع لكتابي طه حسين ( الشعر الجاهلي ) وكتاب علي عبدالرزاق ( الإسلام وأصول الحكم ) من حيث التفكير الجديد الذي لم يجد فيه حتى المثقفون إلا خروجاً على التقاليد والأعراف والعادات ، ومن جهة الألفاظ النابية نذكر على سبيل المثال ( المختار من شعر بشار ) فقد طبع هذا الكتاب مرة منذ سنين ثم أعيدت طبعته منقحة بعد أن حذف منها كلّ ما يشير إلى الصراحة والتبذل والجرح وكذلك كتاب ( أخبار ابن الفراتي ) الذي طبع منه الجزء الأول ثمّ فقدَ بقدرة قادر! ، ولم يعد طبعه حتى الآن .
أما ما نراه من التسامح في طباعة الكتب الصريحة كالأغاني ويتيمة الدهر فهو لا يقدم نقضاً لرأينا في أن هذه الألفاظ كانت وستظل دائماً سبب من أسباب عدم اهتمام الشاعر أو الكاتب وانصراف الناس عنهما تجنباً لسخط الطبقة المحافظة وغضبها .
هل كان لمزاجه أثر في إهماله ؟
يضاف إلى ما أسلفنا أنّ ( الحنق الشخصي ) الذي أشار إليه العقاد والذي عزاه إلى أبي الفرج الأصفهاني واعتبره سبباً من أسباب عدم إدراج الشاعر في كتابه ، أن هذا الحنق لا يصحّ اعتباره سبباً من أسباب الإهمال وإلا فكيف نفسر إهمال بقية المؤرخين لهذا الشاعر وهل يمكن أن نتصور أن هناك حنقاً عاماً على هذا الشاعر ، وقد يمكن ذلك إن رجعنا إلى الفكرة التي أسلفنا شرحها وهي أن ( بذاءة ) الشاعر قد حجبت عنه أقلام المؤرخين حتى تجنبوا الخوض في ذكره والإتيان على شرح حياته وشعره . وإن كان هناك إهمال فليس له سبب غير هذه الألفاظ التي جاءت على لسان الشاعر نتيجة لثورته واضطراب أعصابه وهلوسته ، ولقد وصلت به الحال إلى تشاؤم أبعده عن كل معارفه وأصحابه حتى تسلط الأولاد عليه فراحوا يداعبونه مداعبة خشنة قاسية كانت تثير فيه الغضب الكاسح والسباب الجارح فانصرف الناس عن مزاياه الفنية ، ولم يروا عنده إلا هذه الشتائم المتطرفة التي يندى لها الجبين . وربما جاز لنا أن نخالف هذا الرأي كلية فنقول : أنَّ هناك مؤرخين تعرضوا لذكر ابن الرومي دراسة وتفصيلا ولكن هذه الكتب ذهبت في النكبات المتعاقبة وقد قيل أن ما بقي في المكتبة العربية لا يحسب شيئاً بالقياس إلى ما ذهب منها فإذا صدقنا هذا الرأي أصبح من السهل لدينا أن ننفي عن ابن الرومي الإهمال كله لنقول بأن حظه السيئ قد أزال من عالم الأدب الكتب التي تعرضت لذكره وعنيت بأمره .
سرّ عبقرية الشاعر .
والنقطة الثانية التي شغلت العقاد في دراسته لشعر ابن الرومي هذه ( الرومية ) التي جعلها مصدراً لنبوغ الشاعر في ( التصوير ) و ( التجسيد ) للمرئيات التي كانت تقع عليها عينه ولكن هذه الرومية في نظرنا ليست سوى نظرية ما تزال تحتاج إلى إثبات قبل أن تصبح حقيقة ملموسة مقررة ، ولقد شارك العقاد هذا الرأي كثيرون من مؤرخي الأدب العربي مثل سليمان البستاني فوصل ما بين شاعرنا وهوميروس بسبب القرابة الفنية والتماثل في الأسلوب والمعاني والتشبيهات ، ورأى أيضاً بطرس البستاني هذا الرأي في كتابه ( أدباء العرب ) فعزا عبقرية ابن الرومي ( الأعجمي ) وهو يقصد أصله اليوناني كما خالف العقاد بعض من مثل الأستاذ أنيس المقدسي والدكتور عمر فروخ ، ومعنى هذا أن الفكرة ( الرومية ) قد أوجدت خلافاً أدبيًا ونقاشًا علميًا حول مسألة لا يمكن البتّ فيها ولا تقرير شيء فيها .
دماء الشاعر وأصوله .
فابن الرومي كان أبوه يونانياً ، وهذا ما أثبته عامة المؤرخين ، ولكنه يرجع إلى أصل فارسي من جهةِ أمه ، وما نشكّ نحن ولا علماء الوراثة في أن الأب والأم يشتركان في توريث الابن خصائصهما بل ربما كان نصيب الأم في الوراثة أشدّ وأقوى ، إذا نظرنا إلى التجارب والمشاهدات فكيف قصرنا أثر هذه الوراثة عند ابن الرومي على أبيه . وأهملنا ذكر أمه الفارسية ؟ هذا سؤال يتبادر إلى الذهن للوهلة الأولى لان العقاد والقائلين برأيه يحددون نسب الشاعر فيجعلونه يونانياً وأن الأثر التصويري الذي انتقل إليه جاء من اليونان أهل أبيه ، وكان على أصحاب هذا الرأي أن يلتفتوا إلى أصله من جهةِ أمّه فلعل للفرس نصيباً في هذا الشاعر الذي اختلف الناس في تعليل طريقته الشعرية .
مميزات شعر ابن الرومي .
إن الأسباب التي دعت إلى تفرد ابن الرومي في صفات لا تشبه صفات الشعراء الآخرين في عصره أو في العصور الأخرى يمكن إعادتها إلى ثلاث أمور أو أربعة :
أولاً : أنّ ابن الرومي رغم نبوغه الفني كان مريضا يبتعد عنه الناس والناس يبتعدون عنه مما يجعل الاهتمام منحصرا في شعره فقط فحفظ بعض هذا الشعر واختير للمناسبات والاستشهادات وأعجب الناس به رغم كرههم لشخص ناظمه ومنشئه .
ثانياً : أنّ البذاءة التي انتظمت الجزء الكبير من هذا الشعر حجبت الديوان الرائع كثيراً عن العيون التي تحبّ أصحابها المحافظة على الأخلاق والاصطلاح العام ويأنفون من قراءة الأدب المكشوف والكلام على عورات الناس وعيوبهم .
ثالثاً : أن ابن الرومي هجا شخصيات كثيرة لها أثرها ووزنها في عالم تلك الأيام فقد تناول في هجائه عددا من الوزراء والكتاب والقواد والأغنياء والوجهاء وهؤلاء كانوا مرجعاً للشعراء والأدباء كما كانوا مصدراً لرزقهم ومورداً لعيشهم ، لذلك اضطر أولئك إلى تجنب الحديث عن ابن الرومي مداراةً لأصحاب النفوذ وتجنباً لغضب من بيدهم الحل والعقد .
يضاف إلى الأسباب التي مرّت سبب آخر وهو أهمها جميعاً ، وأعني به هذا التعقيد الذي يرين على شعر ابن الرومي وهذا التوليد في المعاني الذي يجعل المعاني متراكبة متشابكة يتعب قارئها ويجد في فكّ رموزها وطلاسمها عنتاً كبيرا ، فشعر ابن الرومي صعب على الحفظ لأن ابن الرومي من شعراء المعاني لا من شعراء الديباجة والأسلوب ، وشعراء الأسلوب الرائع والديباجة السمحة هم أكثر الشعراء قراءةً وحفظاً ، فأنت تحفظ شوقي والبحتري بسهولة ولكنك تجد شيئاً من الصعوبة حين تحفظ أبا العلاء المعري وأبا تمام ، لأن الكلمة عند شوقي تستدعي الكلمة التي تأتي بعدها للقرابة القريبة بينهما ولأن شوقي والبحتري يهمهما قبل كل شيء الموسيقا والتناسق والانسجام في النغمة بين ألفاظ البيت الواحد ، ولو أدى هذا القصد إلى السطحيّة أحيانًا ، أما أبو تمام مثلاً فاهتمامه منصب على إيجاد المعاني الجديدة والصور الطريفة فهو مشغول الذهن بهذه الناحية ، منصرف عن اللفظ إلى الفكرة وهو يضع الكلمة في البيت الواحد كيفهما اتفق ، شريطة أن تؤدي المعنى الذي يرمي إليه ، لذلك فإن الكثير من ألفاظه يخرج نابياً على السمعِ ناشزاً عن الأذن لفقدان النغم بين الكلمات المتجاورة ، وابن الرومي من شعراء الفكر والصور – أما الموسيقا عنده فتأتي بعد هذا كله ومن هنا فإن حفظه كان صعبا على الحفاظ ورواد الأدب وأصحاب الميل الفني ولهذا كان شعره أبعد عن الاهتمام من شعر زميله ومعاصره البحتري فإذا قدرت أيضاً هذا الشره والتطويل والتعقيد الذي تراه في شعر الشاعر استطعت فهم سبب هام من أسباب زهد الناس في دراسة وشرح شعر ابن الرومي .
شيء منه في سطور .
علي بن العباس بن جريج أو جورجيس الرومي وهو شاعرٌ كبير من طبقة بشار والمتنبي ، روميّ الأصلِ وكان جده مولى من موالي ابن العباس .
ولدَ سنة 221 هـ / 836 م في بغداد ونشأ فيها ومات سنة 283 هـ / 896 م مسمومًا وقيل : دسَّ له السمّ القاسم بن عبيد الله الذي كان وزيراً للمعتضد وكان ابن الرومي قد هجاه .
قال المرزباني . لا أعلم أنّـه مدح أحداً من رئيسٍ أو مرؤوس إلا عاد إليه وهجاه ولذلك قلّت فائدته من شعره وتحاماه الرؤساء وكان سبباً لوفاته .
وقال أيضاً : وأخطأ محمّد بن داوود فيما رواه لمثال ( الوسطي ) من أشعار ابن الرومي التي ليس في طاقة مثال ولا أحد من شعراء زمانه أن يقول مثلها إلا ابن الرومي .
هنا تنتهي رحلتنا في زوايا الأدب وابن الرومي الشاغر المنسي في التاريخ ...
تقبلوا تحياتي
أخوكم امير الحزن ...